الأحد، 22 فبراير 2009

4-أضحَكَ وأبكَيَ

حاولت بعد أن مرت سنوات الطب كلها ان أحدد ما إذا كانت سنوات الطب سعيدة أم لا فلم أستطع أن أصل إلي نتيجة محددة ...
لا يمكنني الجزم حقاً ، مرت بي في أثناء الكلية أوقات عصيبة كما مرت بي أوقات سعيدة كما مرت بي أوقات لا إلي هؤلاء ولا إلي هؤلاء!
يمكنني أن أقول أنني كنت سعيداً عندما استلمت خطاب التنسيق وتيقنت من التحاقي بكلية الطب ، كما أنني لا أستطيع أن أنكر أن شعوراً بالزهو ملأني عندما ارتديت المعطف الأبيض لأول مرة ...
لكنني ـ برغم كل شيء ـ كنت في منتهي البؤس بعد أن "راحت السكرة ....وجاءت الفكرة" وأدركت أن الدراسة لن تكون سهلة بأي حال وأنني إلي حد ما قد "تورطت"...
سعدت جداً بأول امتياز حققته ...،كما حزنت جداً عندما فشلت في المحافظة عليه ....
عندما أشاد بي أحد أساتذتي في أول امتحان شفوي أخوضه كان شعوري لا يوصف ،كنت فرحاً ...أكاد أطير ..، كما أن شعوراً مزلزلاً بالضياع اجتاحني عندما وبخني أستاذ آخر في امتحان شفوي آخر ، فيما تلا ذلك من السنوات خفتت تلك المشاعر الحادة ،بعد ذلك لم يعد المرء يفرح للغاية أو يحزن للغايه خاصة بعد أن أدركت أن امتحانا وحيدا ربما لن يكون مؤثرا إلي هذه الدرجة ، وأن إجادة المرء في الامتحان الشفوي قد لا تعتمد بالضرورة علي درجة مذاكرته بل ربما تتدخل فيها عوامل أخري منها مزاج الممتحن نفسه وقابليته لأن يسأل الطالب في "المنهج المتعارف عليه" إذا جاز التعبير ، فالعلوم الطبية شديدة الضخامة والاتساع وإذا ما أراد الممتحن أن يسأل سؤالا هو علي يقين بأن الطالب لن يستطيع الإجابة عليه فلا يوجد ما يمنعه ، ومنها أيضا مزاج الطالب، قد يؤدي الإفراط في القلق إلي شل عقل المرء فلا يستطيع الاجابه علي اسئله شديدة التفاهة ...الخلاصة أنه لا يمكن للمرء أن يضمن أي شيء في هذا المجال..
كنت سعيدا جدا في تلك الاوقات التي تظهر فيها فتاتي أمام ناظريّ ، شيء ما عجيب كان يجعل كل التفاتة تلتفتها ..وكل حركة تتحركها ..وكل ابتسامة تبتسمها.. وكل انتباهه ..وكل نظرة ..وكل عبسة ..وكل تثاؤبة ..او حتي نظرة شرود أو خمول ..شيئاً مقدساً جديراً بالتبجيل والإجلال ، هذا الشيء اسمه الحب..
وبنفس الدرجة كنت حزينا جداً عندما فشلت أن أتوج هذه المشاعر بالزواج "كانت لي عدة قصص حب انتهت كلها بالفشل الذريع"....
لست أذكر اسم الشاعر الذي قال بيتا للشعر مفاده أن احدهم عندما تركته حبيبته كاد يقطع شرايين معصمه وفي الصباح التالي عجز عن تذكر اسمها ! أيا من كان فهو صادق تماما...
أصدقاء المرء مثلا قد يكونون سببا للبهجه ، انهم يتحملون الهراء الذي لا ينفك المرء يلفظه ويستمعون دون تأفف الي شكاواك المتعدده والي أزماتك العاطفيه والعائليه وغيرها،كما انهم يحمون المرء من شعور شديد الايلام ....الوحده
ولكن الامور قد تدعو الي التوتر عندما يتسلل شيطان ما بينكم ليخبرك بأن فلانا علي سبيل المثال قد قاطعك اثناء الكلام اليوم لا لشيء إلا لكي يثبت انك علي خطأ ، وانه لطالما فعل ذلك وان الامر لا علاقة له بصحة ما تقول اوبخطئه لأنك ـ في الغالب ـ لا تخطيء ، وانما له علاقة بالحقد علي ذكائك وألمعيتك التي لا تباري، الحق أننا نحب أنفسنا جدا لدرجة اننا لا نتخيل أن أحدا يمكن ان يعارضنا لأننا بالفعل مخطئين بل لا بد أن في الأمر"إنّ"! لا بد انه الحقد أو الحسد أو أي سبب آخر عدا أن نكون مخطئين!
بقدر ما كنت مرتبكا في اول مره احتك فيها احتكاكا مباشرا مع المرضي ، بقدر ما كنت سعيدا جدا لأنني ـ أخيرا!ـ أصبحت أمارس فعل الطب!
عندما يدعو لك أحد المرضي يكون هذا أمرا مبهجا جدا ،وعندما تستمع إلي شكوى مريض فقير ميئوس من علاجه فإن هذا أمر يدعو إلي التعاسة ، احد الأطباء ـ لا أذكر من ـ قال ذات مرة انه من المهم ألا يكوّن الطبيب صداقات قوية مع مرضاه الميئوس من علاجهم وبرغم قسوة هذه النصيحة الظاهرة إلا أنني أحيانا ما أري فيها وجاهة خاصة أن الطبيب يدرك مع مرور الوقت أن الطب ليس كفئاً إلي الدرجة التي كان يتصورها وان الموت كثيراً ما يسخر منا...
كنت سعيداً جداً في يوم حفلة التخرج الذي أقامته النقابة لنا واجتاحني شعور غامض في أثناء تلاوتي لقسم الطبيب،شعور هو مزيج من الفرحة والخوف والقلق ، وبعد نهاية الحفل زال شعور الفرح وسيطرت علي مخاوفي : تُري ماذا بعد؟
الآن تري حقا لم لا يمكنني تحديد ما إذا كانت سنوات الطب سعيدة أم لا ولكنني ـ بعد كل هذه السنين ـ واثق من شيء واحد : أنا لم أندم أبدا علي دخول كلية الطب...

الخميس، 1 يناير 2009

3-مالايجيىء

من الامور الجميلة حقاً فيما يخص التحاق المرء بكلية الطب هي أن المحيطين به يعتبرونه طبيبا حقاً فور التحاقه بالكلية ...لا...بل فور وصول خطاب التنسيق الذي يبشره بالقبول بالكلية ، هذا الأمر يضفي علي المرء شرفاً لا شك فيه ، فلا أحد يناديه إلا بيا "دكتور" ...فال"دكتور" ذهب إلي الكلية ،أو "الدكتور" عاد منها،و"الدكتور" ذهب إلي محل البقالة، أو "الدكتور" اشتري الصحف ...باختصار تصير كلمة دكتور علماً عليك لا يمكن لأحد أن ينطق باسمك إلا مقروناً بهذه اللفظة الفخيمة، ولن يمر وقت طويل حتي تجد أحد أقاربك يميل عليك متسائلاً عن الصداع الذي يؤرقه ،وآخر يستفسر عن مشكلة الضغط المزمنة لديه ، بينما تسأل احدي معارفك عن علاج ناجع لإزالة الهالات السوداء حول عينيها،وستحاول أنت أن تكون دبلوماسياً قدر الإمكان وستظل تلف وتدور حول اجابة واحده: اذهب ـ أو اذهبي ـ الي الطبيب المختص ! فيسألونك وماذا تكون انت ؟ فتبتسم في حرج وتحاول التنصل من الموقف السخيف بأن تقول ـ مثلاً ـ انك لم تدرس الجلدية بعد ،أو أن مشكلة الضغط ليست يسيرة الي هذا الحد وتحتاج الي طبيب متخصص لتحديد العلاج المناسب ......لن يخلو الأمر طبعاً في بعض الأحيان ممن يلمزك أو يشكك في كفاءتك انت تحديداً ، المشكلة الحقيقية ههنا هي أنه لن يكون مخطئاً في أغلب الأحوال !
طيلة سنين الطب الطويلة يظل المرء منتظراً ان يكون مؤهلاً ـ حقاً ـ كي يكون طبيباً : في البداية يقولون له : لم العجله؟! انت ما زلت في سنينك الأولي وليس مطلوباً منك سوي أن تتقن دراستك الأكاديمية بالأساس ، فتقول : حسناً ! ان هي الا فترة بسيطة ثم ستبدأ الدراسة العمليه ، ثم تأتي الدراسة العملية فتجد أن دروس العملي ليست في حقيقة الامر سوي معلومات نظرية بشكل او بآخر وانها لا تحمل من "العملي" غير الاسم ، واذا توفر المريض الذي يمكنك ان تفحصه فستجد ان امامك طابور طويل من زملائك يريد ـ مثلك بالضبط ـ ان يفحص المريض ، وانه عندما يحين دورك يكون المريض قد اصابه الملل والضيق من كل هؤلاء "العيال" الذين لا يكفون عن "التفعيص" في جسده .
يقولون لك ـ وما أكثر ما يقولون ـ : لم العجله؟! اذا كنت لا تستطيع الآن ان تتعلم الطب علي اصوله فأمامك سنة الامتياز!سنة طويلة عريضة ستمر فيها علي كل الأقسام تقريبا وستتعلم وقتها كل ما تريد ان تتعلمه، فتقول: حسناً!ان هي الا بضع شهور وينهي المرء سنين الدراسه ومن ثم يبدأ عام الامتياز السعيد !
ثم يأتي عام الامتياز !...
لن يمر عليك وقت طويل حتي تكتشف انه من الممكن للغاية ان تظل قابعا في بيتك طيلة العام دون ان يسأل عنك احد ، وأن أقصي ما يكن ان يحدث ـ في اقسام بعينها ـ هو خصم بضعة جنيهات من مرتب الامتياز الهزيل اصلا
لن يمر عليك وقت طويل ايضا قبل ان تكتشف انك كطبيب امتياز غير مرغوب في وجودك في معظم الاقسام ،فالطبيب المقيم "النائب" غالبا هو علي درجة من المشغولية لا تسمح له ب"ترف" أن يعلمك شيئا باختصار انت لا تمثل له أكثر من التعطيل ..
يوجد مكانين وحيدين يمكن للمرء فيهما ان يتعلم شيئاً ما : مستشفي الأطفال ومستشفي الطوارىء.
والسبب ببساطة يكمن في أن معدل دخول المرضي أكثر بكثير من ان يتحمله النائب فيضطر لتكليف اطباء الامتياز ببعض المهام كي يتخفف من اعبائه ، هذا الامر يضعك في تحد شديد القسوة ، إما أن تفحص المرضي وتكتب لهم العلاج وانت لا تملك الخبرة الكافية وهذا يعني عشرات الأخطاء المخجله مع ما يعنيه ذلك ايضاً من زيادة خبرتك ، أو ان تؤثر السلامة فتترك الامر برمته "وملعون ابو الطب عاللي عايزينه!"
هذه هي المسأله الكل سيسميك طبيبا لكنك في الواقع ولزمن ليس بالقصير لن تكون كذلك...

الخميس، 18 ديسمبر 2008

2


لم يطل اكتئابي كثيراً ،إذ أنني أدركت أن البكاء علي اللبن المسكوب لايفيد،فاجتهدت في الإستذكار ما استطعت وأنزل الله عليّ سكينة مدهشة وتمكنت بفضل الله من اجتياز امتحانات أعمال السنة بنجاح .....

لن تستغرق وقتاً كثيراً حتي تدرك أن التيار الديني يسيطر علي الكلية تماماً ،ستستقبلك شعاراتهم من اللحظة الأولي لدخول الكلية والي أن تخرج منها....
هم أول من يستقبل الطلبة أثناء الكشف الطبي وهم آخر من يودعهم بعد حفلة التخرج ، وبين هذا وذاك العشرات من المواقف والأشخاص التي ستواجهك أثناء مشوار الكلية الطويل..
يمكن التمييز بين تيارين أساسيين ينضويان تحت جناح التيار الإسلامي الكبير :الإخوان المسلمين والتيار السلفي ،كل منهما له ما يميزه عن الآخر ،كلاهما يرفع شعارات دينية ولا يكف عن توزيع المنشورات والملصقات ولكن الإخوان المسلمين لا يخفون تطلعاتهم السياسية القوية فتمتلىء خطاباتهم بالدعوة الي نصرة فلسطين ،أو التنديد باحتلال العراق ـ احتلال العراق حدث وأنا في عامي الثاني بالكلية ـ بينما تزخر خطابات السلفيين بالدعوة الي الحجاب وحرمة الاختلاط وحرمة الغناء والموسيقي وحرمة حلاقة اللحية وأهمية النوافل وكيف أنك إن قلت قولاً معيناً فإن هذا يغفر لك قدر كذا من الذنوب وهكذا..
كان شعوري وقتذاك هو الإغتراب...الإحساس بأني غريب عن هذا الوسط وبخاصة أن الكثير من أحبائي قد نادتهم "نداهة" السلفيين، كل يوم كان أحد معارفي يطلق لحيته ويقصّر سرواله و"يجرجرني" رغماً عني الي المسجد فور سماع الأذان ، كل يوم كانت احدي قريباتي تترك يدي ممدودة في الهواء ـ رافضةً مصافحتي ـ لأنني "لست من محارمها" هذا قبل أن تنتقب وتخفي عني وجهها نهائياً ....
أنا ابن مدرسة اسلامية أكثر عقلانية وتفتحاً أنا أحب الشيخ محمد الغزالي والأستاذ خالد محمد خالد ، لذلك كان لابد ألا أشعر بالإرتياح لكل هذا خاصة مع احساسي بأنني أقف وحيدا وأصدقائي يتناقصون من حولي كل يوم ويذهبون الي"الضفة الأخري من النهر" ، مر وقت قبل أن أجد من زملائي من يشاركني المشاعر ذاتها ويقف نفس موقفي وهو ما أراحني نسبياً ....
وقتها لم أستطع أن أتفهم الدوافع التي تجعل البعض ينساق وراء هذا التيار ،فيما بعد قدرت أن ما يفعله هؤلاء هو نوع من التمرد ، إعلان العصيان للمجتمع، ان ما يفعلونه يماثل ماكان الهيبيون يفعلونه في أمريكا في ستينيات القرن الماضي ،ولكن بينما كان الهيبيون يعبرون عن ثورتهم عن طريق التحرر من أي قيد ،كان السلفيون عندنا يفعلون النقيض تماماً:الإلتزام بنظام صارم يقسو به المرء علي نفسه وعلي من حوله ، للأمر بالطبع جوانب أخري منها ما قاله الأستاذ طارق البشري "سيبقي الغلو ما بقي التغريب" يعني أنه طالما ظلت الحضارة الغربية مهيمنة علينا وتدفعنا للإبتعاد عن أصولنا فإن هذا سيدفعنا أكثر وأكثر للتمسك بديننا و"الإيغال"فيه حتي ولو أدي هذا إلي التمسك ب"القشور"كما يقول البعض ...
يوجد سبب آخر يخص طلبة الطب بالذات ؛دراسة الطب دراسة قاسية والقليلون هم من يستطيعون الصبر عليها وتحقيق النجاح البارز فيها وبخاصة في سنين الدراسة الأولي ،لذلك ستجد العديدين ممن كانوا سابقاً من المتفوقين وقد وقعوا في هوة الفشل الدراسي ،بعض هؤلاء يدفعهم اليأس من الطب الي البحث عن النجاح في مجال آخر غالباًما يكون الدعوة ـ فيما بعد ظهرت بدعة جديدة هي التنمية البشرية إنضم إليها أمثال هؤلاء ـ من المهم هنا أن أقول أن التعميم غير وارد علي الإطلاق :ليس كل من لم يحالفه النجاح في الدراسة قد اتجه الي الدعوة أو الي التنمية البشرية كما انه ليس كل من اتجه الي الدعوة او الي غيرها قد واجه الفشل في دراسته الأساسية..
الشيىء المهم هنا هو انك لا يمكن ان تصدر حكماً عاماً علي أي مجموعة من الأشخاص فليس كل السلفيون مثلاً متجهمون أو ثقيلو الظل بل انهم مثل أي مجموعة أخري من البشر فيهم الكريم وفيهم البخيل ..فيهم المرح وفيهم الكئيب ..فيهم الذكي وفيهم الغبي ..تماماً مثل أي انسان آخر...

الأحد، 14 ديسمبر 2008

1


انا واحد من هؤلاء الذين يترددون كثيراً قبل فعل اي شيىء فإذا فعلوه ندموا عليه!
إن هذا عيب خطير في شخصية المرء ،لطالما أعياني هذا الأمر ،ولطالما حاولت التخلص منه ولكن ـ كما يبدو ـ دون جدوي ....
ترددت كثيراً في قرار الإلتحاق بكلية الطب وعندما التحقت بها فعلياً ندمت كثيرا وهو الندم الذي استمر لبعض الوقت قبل أن أسلم بقضاء الله وقدره !
في بداية الأمر تكون مشاعر المرء مختلطة تتراوح بين الفخر بذلك " الإنجاز " الذي تحقق بدخول الكلية المرموقة ،و"الصدمة" مما يلاقيه المرء في الكلية بدءاً من أول يوم دراسي ؛الأمور تكون شديدة الإرتباك ..إذ تبدأ المحاضرات مباشرة وكلها باللغة الإنجليزية في ذات الوقت الذي لا ندري فيه نحن مصدراً للإستذكار حتي إذا ما توفر هذا المصدر واستقر المرء عليه وبدأ يحاول الإستذكار فإذا به لا يعرف لنفسه مبتدءاً من منتهي ولا مدخلاً من مخرج !
ودخلت في دوامات لا تنتهي :هل آخذ دروساً خصوصية أم لا ؟
وإذا أخذت دروساً في مادةٍ ما فهل أحضر محاضراتها بالكلية؟
دعك بالطبع من التساؤل القاتل :هل بإمكاني أن أنجح في الكلية؟ خاصةً أن من سبقوني من معارفي في الكلية لم يحققوا النتائج الباهرة المتوقعة منهم....
في ذلك الوقت كانت الدروس الخصوصية بكلية الطب أقرب إلي النشاط الإجرامي ؛إذ أنها كانت تُمارس في سرية تامة ،وكان كل معيد "يتورط" في نشاط كهذا يصبح عرضة لمختلف وسائل العقاب من قِبل الكلية ،لذا فقد كان كل واحد من هؤلاء حريصا علي أن يكون عدد مجموعاته محدوداً بالإضافة إلي حرصه علي أن يحفظ كل طالب من طلبته "سرية" الأمر!
بالطبع كل هذا تغير تماماً بعد ذلك إذ أصبحت الدروس الخصوصية كلأً مباحاً للجميع
وصارت مسألة منعها أقرب إلي المزاح .....
نتيجة لجو "الرعب" الذي أحاط بي فقد أخذت درساً في مادة واحدة هي علم الخلايا ـ الهستولوجيHISTOLOGY ـ وكان من يدرس لنا مدرساً مساعداً بالقسم والحق أنه كان رجلاً مرحاً وكان شرحه للمادة ممتازاً ،ولكنني برغم هذا تركته في النصف الثاني من العام الدراسي لأنني إعتقدت ـ ومازلت ـ أن الإجتهاد في الدراسة يغني عن الدروس الخصوصية....
ولكن الوقت يمر!
وباستثناء مادة علم الخلايا فإن وضعي في بقية المواد لم يكن جيداً علي الإطلاق خاصة أنه في تلك اللحظة التي شعرت فيها بأنني إجتزت حاجز اللغة ـ ولو جزئياً ـ اكتشفت أن أمامي تلال من الكتب والمذكرات ينبغي علي أن أذاكرها في زمن قياسي لا يزيد علي الشهر ونصف تقريباً وهو ما أدخلني في حالة من اليأس والإكتئاب......

الكلية


كلية طب المنصورة مكان ضخم حقا ً، إذ أنها تضم عدة مبان متصلة ببعضها تضم مكاتب الإدارة بالإضافة إلي الأقسام الأكاديمية والمدرجات القديمة للكلية ،كما يوجد مبني ضخم يضم المدرجين الكبيرين الذين أنشأتهما الكلية منذ بضعة أعوام لتواجه الزيادة الكبيرة التي حدثت في أعداد الطلاب ،بالإضافة إلي مستشفيات الكلية المختلفه، بالطبع كل هذه المباني لم يراعي البعد الجمالي في بنائها بقدر ما روعي "البذخ" ، لا يجمع بين هذه المباني لون معين أو اطار معماري مميز ،ولكن علي العكس تشعر أن كل مبني لا يربطه بالآخر أي رابط ،ولكن الواضح هو حرص من قام بإنشاء هذه المباني علي أن تمتلىء هذه المباني بالرخام والمصاعد وكل ما يجعلك تشعر بالفخامة وانت تتأمل تلك المباني ، بعض تلك المباني لم يخل مما يميز معظم المباني الحكومية الآخري : أعمال الإنشاء ... أعمال الإنشاء التي لا تتوقف أبداً ..دائما ما يوجد ما يتم تكسيره وإعادة إنشاؤه ...هكذا والي الابد..
تتسم أيضاُ بالبطء الشديد ،إنتوت الجامعة إنشاء مكتبة مركزية بدأ بناؤها وأنا بعد في الفرقة الأولي ،والي الآن ـ وأنا قد أنهيت دراستي بالكلية ـ لم يتم بناء سوي دور واحد تقريباُ!

الجمعة، 5 ديسمبر 2008

بداية الحكايه...

من أين أبدأ الحكاية؟....
من الوقت الذي التحقت فيه رسميا بكلية الطب ؟
أم من ذلك الوقت البعييييد جدا الذي كانت والدتي لاتكف فيه عن الدعاء لي بأن أصير "دكتورا"؟..
ربما كان من المناسب في رأيى أن أبدأ من الثانوية العامة،وأنا بعد طالب في الصف الثاني الثانوي ،بشكل عام يمكنك أن تقول انني في تلك المرحلة كنت من هؤلاء الطلبة الذين لا يتميزون بشيىء علي الاطلاق ،بالتأكيد لم أكن طالبا بليدا لكن المؤكد أن مستواي لم يكن يعد بشيىء مميز علي وجه الخصوص ...،في تلك الفترة البائسة كان والدي كليهما كثيري الشجار معي وكان الشعور المسيطر عليهما باءزائي هو عدم الرضا ،وهو امر يدلك علي انهما برغم شكهما فيما يمكنني تحقيقه الا انهما لم يفقدا الأمل بعد في أنني "ربما"أفعل شيئا ما..
وانا برغم كل شيىء لست متبلد الحس الي هذا الحد ،كنت أشعر بألمهما من أجلي وبطموحاتهما الكبيرة في شخصي،وكثيرا ما كانت تنتابني نوبات من الحماسة للمذاكرة التي سرعان ما تفتر "فتعود ريما الي عادتها القديمة" وهو عيب أصيل في شخصيتي مازلت أعاني منه حتي الآن :لم أقو أبدا علي اتمام مشروع أتحمس له..
هكذا كانت تمر الأيام علي:أبوين غير راضيين ،واجتهاد لا يعد بالكثير..
المهم انني في تلك الفترة قدر لي الله ان تتوطد صداقتي بأحد زملائي القدامي ،كان علي النقيض مني تماما :شديد "اللمعان"اذا جاز التعبير،كل المدرسين يعرفونه ويعجبون به أيما اعجاب، في حين كان هو يسارع للاجابة عن أي سؤال يسأله المدرس كنت أنا أتواري خوفا من أن يختارني المدرس للاجابه،كان ثقته في نفسه وفي قدراته مطلقة في حين كان اليأس يمزقني من أن أتمكن من فعل شيىء علي الاطلاق ....
ذات يوم دار بيننا نقاش حول الكلية التي نفضل الالتحاق بها رددت في هذا الحوار الكلام المكرر عن كلية الطب وكيف انها سبع سنوات ،ومستقبلها غير مضمون ـ وكأنه يوجد شيء أصلا مستقبله مضمون ـ وكيف أن فرص السفر الي الخليج صارت أقل و..الي آخر كل هذا الكلام الفارغ الذي يدور علي السنة الجميع تقريبا ،استقبل صديقي هذا الكلام باستخفاف بالغ وسفه كل ما قلت تقريبا ثم أخذ يكيل المديح لكلية الطب ،والمدهش انه في مديحه لكلية الطب لم يحاول ان ينفي ما قلته أو أن يثبت لكلية الطب من المزايا ما لا أعرفه ، بل كل ما قاله يدور حول فكرة واحدة: كفي بكلية الطب أن تكون كلية للطب !اخذ يتكلم في حماسه عن عظمة كلية الطب وكيف انه لا توجد كلية تناظر أو تكافىء كلية الطب وان الفرق بين كلية الطب وما سواها كالفرق بين السماء والارض أو كالفرق بين النجوم وأسفلت الطريق!
كان حديثه غير عقلاني بالمرة ولكنه كان مؤثرا للغاية،كان شديد الحماسة ...شديد الايمان بما يقول الي الدرجة التي جعلتني اشاركه الحماسة والايمان بلا تردد، ثم اقترح علي وكنا قد خرجنا لتونا من المدرسة أن نذهب لنري كلية الطب!
طاوعته وانا مازالت مسكرا بكلماته برغم اننا وقتها كنا في أوج الشتاء وكان الجو ينذر بما لا يحمد عقباه.. وبالفعل .. وصلنا الي الكلية، كانت السماء قد بدأت تمطر فوق رأسينا ،لم نفعل شيئا سوي ان ظللنا نتأمل ذلك المبني الكبير الذي كتبت عليه"كلية الطب" صامتين تقريبا الا من بعض كلمات فارغه ،ثم عدنا الي بيوتنا مبللين اثر المطر وهو الامر الذي دفعت ثمنه بعد ذلك حيث اصبت بنزلة برد قوية لم أبرأ منها سريعا،برغم كل شيىء فان شيئا ما سحرني في كل هذا ..كلام صديقي شديد الحماس ..شديد الايمان ،المطر الذي ظل ينهمر فوق رؤوسنا ،ومبني كلية الطب الذي بدا لي وقتها مليئا بالغموض والاسرار والجثث التي يتم تشريحها والمرضي الذين يعكف علي علاجهم "الأطباء"بما يثيره هذا في النفس من رهبة وروعة...
كانت لحظة سحرية من تلك اللواتي لا يمكنك أن تنساهن أبدا ، وكانت هذه فيما أري ....بداية الحكاية..