الخميس، 18 ديسمبر 2008

2


لم يطل اكتئابي كثيراً ،إذ أنني أدركت أن البكاء علي اللبن المسكوب لايفيد،فاجتهدت في الإستذكار ما استطعت وأنزل الله عليّ سكينة مدهشة وتمكنت بفضل الله من اجتياز امتحانات أعمال السنة بنجاح .....

لن تستغرق وقتاً كثيراً حتي تدرك أن التيار الديني يسيطر علي الكلية تماماً ،ستستقبلك شعاراتهم من اللحظة الأولي لدخول الكلية والي أن تخرج منها....
هم أول من يستقبل الطلبة أثناء الكشف الطبي وهم آخر من يودعهم بعد حفلة التخرج ، وبين هذا وذاك العشرات من المواقف والأشخاص التي ستواجهك أثناء مشوار الكلية الطويل..
يمكن التمييز بين تيارين أساسيين ينضويان تحت جناح التيار الإسلامي الكبير :الإخوان المسلمين والتيار السلفي ،كل منهما له ما يميزه عن الآخر ،كلاهما يرفع شعارات دينية ولا يكف عن توزيع المنشورات والملصقات ولكن الإخوان المسلمين لا يخفون تطلعاتهم السياسية القوية فتمتلىء خطاباتهم بالدعوة الي نصرة فلسطين ،أو التنديد باحتلال العراق ـ احتلال العراق حدث وأنا في عامي الثاني بالكلية ـ بينما تزخر خطابات السلفيين بالدعوة الي الحجاب وحرمة الاختلاط وحرمة الغناء والموسيقي وحرمة حلاقة اللحية وأهمية النوافل وكيف أنك إن قلت قولاً معيناً فإن هذا يغفر لك قدر كذا من الذنوب وهكذا..
كان شعوري وقتذاك هو الإغتراب...الإحساس بأني غريب عن هذا الوسط وبخاصة أن الكثير من أحبائي قد نادتهم "نداهة" السلفيين، كل يوم كان أحد معارفي يطلق لحيته ويقصّر سرواله و"يجرجرني" رغماً عني الي المسجد فور سماع الأذان ، كل يوم كانت احدي قريباتي تترك يدي ممدودة في الهواء ـ رافضةً مصافحتي ـ لأنني "لست من محارمها" هذا قبل أن تنتقب وتخفي عني وجهها نهائياً ....
أنا ابن مدرسة اسلامية أكثر عقلانية وتفتحاً أنا أحب الشيخ محمد الغزالي والأستاذ خالد محمد خالد ، لذلك كان لابد ألا أشعر بالإرتياح لكل هذا خاصة مع احساسي بأنني أقف وحيدا وأصدقائي يتناقصون من حولي كل يوم ويذهبون الي"الضفة الأخري من النهر" ، مر وقت قبل أن أجد من زملائي من يشاركني المشاعر ذاتها ويقف نفس موقفي وهو ما أراحني نسبياً ....
وقتها لم أستطع أن أتفهم الدوافع التي تجعل البعض ينساق وراء هذا التيار ،فيما بعد قدرت أن ما يفعله هؤلاء هو نوع من التمرد ، إعلان العصيان للمجتمع، ان ما يفعلونه يماثل ماكان الهيبيون يفعلونه في أمريكا في ستينيات القرن الماضي ،ولكن بينما كان الهيبيون يعبرون عن ثورتهم عن طريق التحرر من أي قيد ،كان السلفيون عندنا يفعلون النقيض تماماً:الإلتزام بنظام صارم يقسو به المرء علي نفسه وعلي من حوله ، للأمر بالطبع جوانب أخري منها ما قاله الأستاذ طارق البشري "سيبقي الغلو ما بقي التغريب" يعني أنه طالما ظلت الحضارة الغربية مهيمنة علينا وتدفعنا للإبتعاد عن أصولنا فإن هذا سيدفعنا أكثر وأكثر للتمسك بديننا و"الإيغال"فيه حتي ولو أدي هذا إلي التمسك ب"القشور"كما يقول البعض ...
يوجد سبب آخر يخص طلبة الطب بالذات ؛دراسة الطب دراسة قاسية والقليلون هم من يستطيعون الصبر عليها وتحقيق النجاح البارز فيها وبخاصة في سنين الدراسة الأولي ،لذلك ستجد العديدين ممن كانوا سابقاً من المتفوقين وقد وقعوا في هوة الفشل الدراسي ،بعض هؤلاء يدفعهم اليأس من الطب الي البحث عن النجاح في مجال آخر غالباًما يكون الدعوة ـ فيما بعد ظهرت بدعة جديدة هي التنمية البشرية إنضم إليها أمثال هؤلاء ـ من المهم هنا أن أقول أن التعميم غير وارد علي الإطلاق :ليس كل من لم يحالفه النجاح في الدراسة قد اتجه الي الدعوة أو الي التنمية البشرية كما انه ليس كل من اتجه الي الدعوة او الي غيرها قد واجه الفشل في دراسته الأساسية..
الشيىء المهم هنا هو انك لا يمكن ان تصدر حكماً عاماً علي أي مجموعة من الأشخاص فليس كل السلفيون مثلاً متجهمون أو ثقيلو الظل بل انهم مثل أي مجموعة أخري من البشر فيهم الكريم وفيهم البخيل ..فيهم المرح وفيهم الكئيب ..فيهم الذكي وفيهم الغبي ..تماماً مثل أي انسان آخر...

الأحد، 14 ديسمبر 2008

1


انا واحد من هؤلاء الذين يترددون كثيراً قبل فعل اي شيىء فإذا فعلوه ندموا عليه!
إن هذا عيب خطير في شخصية المرء ،لطالما أعياني هذا الأمر ،ولطالما حاولت التخلص منه ولكن ـ كما يبدو ـ دون جدوي ....
ترددت كثيراً في قرار الإلتحاق بكلية الطب وعندما التحقت بها فعلياً ندمت كثيرا وهو الندم الذي استمر لبعض الوقت قبل أن أسلم بقضاء الله وقدره !
في بداية الأمر تكون مشاعر المرء مختلطة تتراوح بين الفخر بذلك " الإنجاز " الذي تحقق بدخول الكلية المرموقة ،و"الصدمة" مما يلاقيه المرء في الكلية بدءاً من أول يوم دراسي ؛الأمور تكون شديدة الإرتباك ..إذ تبدأ المحاضرات مباشرة وكلها باللغة الإنجليزية في ذات الوقت الذي لا ندري فيه نحن مصدراً للإستذكار حتي إذا ما توفر هذا المصدر واستقر المرء عليه وبدأ يحاول الإستذكار فإذا به لا يعرف لنفسه مبتدءاً من منتهي ولا مدخلاً من مخرج !
ودخلت في دوامات لا تنتهي :هل آخذ دروساً خصوصية أم لا ؟
وإذا أخذت دروساً في مادةٍ ما فهل أحضر محاضراتها بالكلية؟
دعك بالطبع من التساؤل القاتل :هل بإمكاني أن أنجح في الكلية؟ خاصةً أن من سبقوني من معارفي في الكلية لم يحققوا النتائج الباهرة المتوقعة منهم....
في ذلك الوقت كانت الدروس الخصوصية بكلية الطب أقرب إلي النشاط الإجرامي ؛إذ أنها كانت تُمارس في سرية تامة ،وكان كل معيد "يتورط" في نشاط كهذا يصبح عرضة لمختلف وسائل العقاب من قِبل الكلية ،لذا فقد كان كل واحد من هؤلاء حريصا علي أن يكون عدد مجموعاته محدوداً بالإضافة إلي حرصه علي أن يحفظ كل طالب من طلبته "سرية" الأمر!
بالطبع كل هذا تغير تماماً بعد ذلك إذ أصبحت الدروس الخصوصية كلأً مباحاً للجميع
وصارت مسألة منعها أقرب إلي المزاح .....
نتيجة لجو "الرعب" الذي أحاط بي فقد أخذت درساً في مادة واحدة هي علم الخلايا ـ الهستولوجيHISTOLOGY ـ وكان من يدرس لنا مدرساً مساعداً بالقسم والحق أنه كان رجلاً مرحاً وكان شرحه للمادة ممتازاً ،ولكنني برغم هذا تركته في النصف الثاني من العام الدراسي لأنني إعتقدت ـ ومازلت ـ أن الإجتهاد في الدراسة يغني عن الدروس الخصوصية....
ولكن الوقت يمر!
وباستثناء مادة علم الخلايا فإن وضعي في بقية المواد لم يكن جيداً علي الإطلاق خاصة أنه في تلك اللحظة التي شعرت فيها بأنني إجتزت حاجز اللغة ـ ولو جزئياً ـ اكتشفت أن أمامي تلال من الكتب والمذكرات ينبغي علي أن أذاكرها في زمن قياسي لا يزيد علي الشهر ونصف تقريباً وهو ما أدخلني في حالة من اليأس والإكتئاب......

الكلية


كلية طب المنصورة مكان ضخم حقا ً، إذ أنها تضم عدة مبان متصلة ببعضها تضم مكاتب الإدارة بالإضافة إلي الأقسام الأكاديمية والمدرجات القديمة للكلية ،كما يوجد مبني ضخم يضم المدرجين الكبيرين الذين أنشأتهما الكلية منذ بضعة أعوام لتواجه الزيادة الكبيرة التي حدثت في أعداد الطلاب ،بالإضافة إلي مستشفيات الكلية المختلفه، بالطبع كل هذه المباني لم يراعي البعد الجمالي في بنائها بقدر ما روعي "البذخ" ، لا يجمع بين هذه المباني لون معين أو اطار معماري مميز ،ولكن علي العكس تشعر أن كل مبني لا يربطه بالآخر أي رابط ،ولكن الواضح هو حرص من قام بإنشاء هذه المباني علي أن تمتلىء هذه المباني بالرخام والمصاعد وكل ما يجعلك تشعر بالفخامة وانت تتأمل تلك المباني ، بعض تلك المباني لم يخل مما يميز معظم المباني الحكومية الآخري : أعمال الإنشاء ... أعمال الإنشاء التي لا تتوقف أبداً ..دائما ما يوجد ما يتم تكسيره وإعادة إنشاؤه ...هكذا والي الابد..
تتسم أيضاُ بالبطء الشديد ،إنتوت الجامعة إنشاء مكتبة مركزية بدأ بناؤها وأنا بعد في الفرقة الأولي ،والي الآن ـ وأنا قد أنهيت دراستي بالكلية ـ لم يتم بناء سوي دور واحد تقريباُ!

الجمعة، 5 ديسمبر 2008

بداية الحكايه...

من أين أبدأ الحكاية؟....
من الوقت الذي التحقت فيه رسميا بكلية الطب ؟
أم من ذلك الوقت البعييييد جدا الذي كانت والدتي لاتكف فيه عن الدعاء لي بأن أصير "دكتورا"؟..
ربما كان من المناسب في رأيى أن أبدأ من الثانوية العامة،وأنا بعد طالب في الصف الثاني الثانوي ،بشكل عام يمكنك أن تقول انني في تلك المرحلة كنت من هؤلاء الطلبة الذين لا يتميزون بشيىء علي الاطلاق ،بالتأكيد لم أكن طالبا بليدا لكن المؤكد أن مستواي لم يكن يعد بشيىء مميز علي وجه الخصوص ...،في تلك الفترة البائسة كان والدي كليهما كثيري الشجار معي وكان الشعور المسيطر عليهما باءزائي هو عدم الرضا ،وهو امر يدلك علي انهما برغم شكهما فيما يمكنني تحقيقه الا انهما لم يفقدا الأمل بعد في أنني "ربما"أفعل شيئا ما..
وانا برغم كل شيىء لست متبلد الحس الي هذا الحد ،كنت أشعر بألمهما من أجلي وبطموحاتهما الكبيرة في شخصي،وكثيرا ما كانت تنتابني نوبات من الحماسة للمذاكرة التي سرعان ما تفتر "فتعود ريما الي عادتها القديمة" وهو عيب أصيل في شخصيتي مازلت أعاني منه حتي الآن :لم أقو أبدا علي اتمام مشروع أتحمس له..
هكذا كانت تمر الأيام علي:أبوين غير راضيين ،واجتهاد لا يعد بالكثير..
المهم انني في تلك الفترة قدر لي الله ان تتوطد صداقتي بأحد زملائي القدامي ،كان علي النقيض مني تماما :شديد "اللمعان"اذا جاز التعبير،كل المدرسين يعرفونه ويعجبون به أيما اعجاب، في حين كان هو يسارع للاجابة عن أي سؤال يسأله المدرس كنت أنا أتواري خوفا من أن يختارني المدرس للاجابه،كان ثقته في نفسه وفي قدراته مطلقة في حين كان اليأس يمزقني من أن أتمكن من فعل شيىء علي الاطلاق ....
ذات يوم دار بيننا نقاش حول الكلية التي نفضل الالتحاق بها رددت في هذا الحوار الكلام المكرر عن كلية الطب وكيف انها سبع سنوات ،ومستقبلها غير مضمون ـ وكأنه يوجد شيء أصلا مستقبله مضمون ـ وكيف أن فرص السفر الي الخليج صارت أقل و..الي آخر كل هذا الكلام الفارغ الذي يدور علي السنة الجميع تقريبا ،استقبل صديقي هذا الكلام باستخفاف بالغ وسفه كل ما قلت تقريبا ثم أخذ يكيل المديح لكلية الطب ،والمدهش انه في مديحه لكلية الطب لم يحاول ان ينفي ما قلته أو أن يثبت لكلية الطب من المزايا ما لا أعرفه ، بل كل ما قاله يدور حول فكرة واحدة: كفي بكلية الطب أن تكون كلية للطب !اخذ يتكلم في حماسه عن عظمة كلية الطب وكيف انه لا توجد كلية تناظر أو تكافىء كلية الطب وان الفرق بين كلية الطب وما سواها كالفرق بين السماء والارض أو كالفرق بين النجوم وأسفلت الطريق!
كان حديثه غير عقلاني بالمرة ولكنه كان مؤثرا للغاية،كان شديد الحماسة ...شديد الايمان بما يقول الي الدرجة التي جعلتني اشاركه الحماسة والايمان بلا تردد، ثم اقترح علي وكنا قد خرجنا لتونا من المدرسة أن نذهب لنري كلية الطب!
طاوعته وانا مازالت مسكرا بكلماته برغم اننا وقتها كنا في أوج الشتاء وكان الجو ينذر بما لا يحمد عقباه.. وبالفعل .. وصلنا الي الكلية، كانت السماء قد بدأت تمطر فوق رأسينا ،لم نفعل شيئا سوي ان ظللنا نتأمل ذلك المبني الكبير الذي كتبت عليه"كلية الطب" صامتين تقريبا الا من بعض كلمات فارغه ،ثم عدنا الي بيوتنا مبللين اثر المطر وهو الامر الذي دفعت ثمنه بعد ذلك حيث اصبت بنزلة برد قوية لم أبرأ منها سريعا،برغم كل شيىء فان شيئا ما سحرني في كل هذا ..كلام صديقي شديد الحماس ..شديد الايمان ،المطر الذي ظل ينهمر فوق رؤوسنا ،ومبني كلية الطب الذي بدا لي وقتها مليئا بالغموض والاسرار والجثث التي يتم تشريحها والمرضي الذين يعكف علي علاجهم "الأطباء"بما يثيره هذا في النفس من رهبة وروعة...
كانت لحظة سحرية من تلك اللواتي لا يمكنك أن تنساهن أبدا ، وكانت هذه فيما أري ....بداية الحكاية..